من اسهامات التلاميذ أخلاقيات العلم
صفحة 1 من اصل 1
من اسهامات التلاميذ أخلاقيات العلم
اخلاقيات العلم
حين ازدهرت معظم العلوم إبان عصر النهضة في أوربا، كان علم البيولوجيا هو اقلها نصيبا من هذا النهوض. وربما يرجع ذلك إلي أن علماء عصر النهضة والعصور التي تلته كانوا مبهورين ومشدودين للتعرف على أسرار الكون من حولهم كحركة الأجرام السماوية وتفاعل المواد وغيرها. ولذلك كانت علوم كالفلك والكيمياء والفيزياء هي الأوفر حظا من البحث والتجريب والأوفر نصيبا من ذيوع الصيت بينما بقي علم وعلماء البيولوجيا هم الأقل شانا وشهرة. على أن هذه الحالة من التجاهل بدأت تتآكل بالتدريج خاصة في القرن التاسع عشر حيث جذبت علوم جديدة كعلم التطور وعلم الوراثة كثيرا من الأضواء والاهتمام. لكن التغير الأكبر من حالة التجاهل الشديد إلي حالة الولع بالبيولوجيا قد تم مع ثورة البيولوجيا الجزيئية واكتشاف التركيب الأساسي للدنا مع ما استتبع ذلك من تطبيقات فاقت كل تخيل. وكانت هذه الثورة البيولوجية هي المؤشر الأول لانتقال عقول عظيمة في كل أنحاء العالم من دراسة العالم الخارجي إلي دراسة عالم أكثر إبهارا موجود بداخلنا يعج بكثير من العجائب والمعجزات كما انه لا يفتقر إلي تطبيقات عملية تحمل معها الكثير من المجد والثروة.
وهكذا انتقت مقولة الكاتب الفرنسي " مونتني " عن " المهرج الوحيد " والتي تقول: " ما عداك أيها الإنسان، فكل شيء في الوجود قد عرف نفسه وليس هناك ما هو أكثر فراغا وفقرا منك، أنت الذي يتمثل الكون فيك. انك باحث ولا معرفة، قاض ولا قضاء، وبعد فأنت المهرج الوحيد في هذه الهزلية البشرية ". فأخيرا انكب المهرج الوحيد لدراسة نفسه وغيره من الكائنات برغبة مهولة وشبق لا يرتوي وكأنه يحاول – انطلاقا من عقدة المهرج الوحيد هذه – أن يعوض ما فاته من قرون عديدة، لم يستثمرها في دراسة نفسه. وهنا تكمن المعضلة، فالمتابع لحجم الأبحاث والإنجازات المطردة للبيولوجيا الجزيئية، يدرك أن هناك رغبة عارمة في مواصلة البحث وطرق آفاق المجهول بأي ثمن وبأي طريقة وهنا يأتي دور " الفرامل " المسماة " بأخلاقيات العلم " للحد من سرعة وقوة " كرة الجليد " المنحدرة من أعلى جبل الثلج حتى لا تسقط فوق رأس البشرية كلها. ولكن السؤال الصعب هو ما دور هذه الأخلاقيات، وهل تستطيع أن تلاحق التقدم البالغ السرعة لهذه الثورة البيولوجية؟!!
قواعد أخلاقية للعلم أم للعلماء:
هناك مونولوج في " فاوست " رائعة الشاعر الألماني " جوته " يقول " أيتها الرسالة السامية! قبلنا، قبلي أنا، لم يكن العالم موجودا، لقد انتزعت الشمس من وسط الهاوية، وإن القمر ليسير في مداره. إن النهار حين أتى قد أصبح جميلا تحت إقدامي، والأرض علاها وشى من الخضرة والأزهار، وموكب النجوم الذهبية قد بزغ في السماء القدسية في الليلة الأولى بفضل يدي، وإن لم يكن أنا فمن إذن الذي حطم القوانين البائسة التي أثقلت كاهل الأرض".
لن يكون من المستغرب أن نسمع مونولوجا شبيها بهذا من أحد علماء الهندسة الوراثية وهو مهتاج من نشوة ما أتيح له بفضل هذا العلم من أن فصل و تعديل ونقل للجينات الوراثية مخدوعا بأنه أصبح إلهاً أو حتى نصف إله. ولكن هل يعنى هذا أن كل علماء هذه الثورة العلمية الجديدة على هذا المنوال؟ والإجابة انه على العكس من ذلك فمعظم علمائها مطبوعون على التواضع العميق إزاء ما يتبدى لهم كل يوم من أسرار وحقائق مذهلة، وهم في تواضعهم هذا أتقياء حقا يمدون أبصارهم إلي الآفاق البعيدة، وكأنهم أناس صائرون لا يتوقفون. وما بين الموقفين المتباينين لعلماء الهندسة الوراثية يأتي المجتمع ليبحث عن دوره في وضع الضوابط الأخلاقية لهذا العلم حتى لا يخرج عن مساره. وهنا بالضبط تكمن المشكلة حيث قد يصبح سلوك بعض العلماء في فرع ما من العلم هو المعيار الذي على أساسه نقيم أحكامنا الخلقية على العلم نفسه دون دراية كافية بأبعاده وتفاصيله. وليس بعيدا عن الحسبان أن استخداما خاطئا لمعيار خاطئ يعتمد على الناحية الوجدانية من حيث الشعور بالرضا والغضب كمعيار وحيد في الحكم على احدث واعقد فروع العلم هو منتهي العشوائية. وتتضاعف المأساة عندما نتذكر أن الأحكام الخلقية هي في مضمونها أحكام مؤبدة تشتمل دائما على معنى الوجوب مما قد يؤدى إلي المنع في بعض البلدان أما في بلدان أخرى كبلادنا حيث يلعب الدين دورا رئيسيا في حياة كل الناس قد يصل الأمر إلي درجة التحريم. ومن حيث المبدأ فالمنع والتحريم مطلوبان لوقف ممارسة علمية غير مرغوب فيها ولكن – وآه من كلمة لكن – حين تكون حيثيات المنع أو التحريم مستقاة من معرفة واضحة بالتفاصيل العلمية، ومبينة على معايير منطقية لا يشوبها التهافت أو تلوثها العاطفة.
فحرية تدفق المعلومات الصحيحة عن " علم " ما إلي جمهور الناس، والمعرفة الصحيحة بتفاصيله وآفاقه لدى القائمين على سن القوانين المنظمة له هما الركيزة الأساسية لوضع قواعد أخلاقية صحيحة فكما يقول أحد الفلاسفة: " إن ما يزعج الإنسان ويبعث الاضطراب إلي قلبه ليس الأشياء ذاتها، بل أفكاره ومعتقداته الخاصة بهذه الأشياء ".
وفى عصرنا الحالي يمكن أن يضاف إلي ذلك ما تبعثه وسائل الإعلام ومناورات الساسة من اضطراب في معتقدات العامة من الناس بخصوص شيء ما. وأول نموذج على ذلك هو ما فعلته الحكومة الفرنسية في أواخر عام 1998 بحظر تطعيم أطفال المدارس ضد الالتهاب الكبدي الوبائي (ب) والذي يستخدم فيه لقاحاً مصنع بوسائل الهندسة الوراثية بحجة انه ربما يكون له علاقة بنشوء بعض الأمراض التي تصيب الجهاز العصبي. ومن المعروف أن هذا اللقاح قد تم تعميمه بواسطة منظمة الصحة العالمية ويتم التطعيم الإجباري به في معظم دول العالم. وهنا يجب أن نسأل عن الدوافع التي جعلت الحكومة الفرنسية تتخذ قرارها السابق؟ والحقيقة أن هذه الدوافع كانت – للأسف – غير علمية على الإطلاق. فعندما ردت منظمة الصحة العالمية وبعنف على القرار الفرنسي معلنة انه قد تم استهلاك أكثر من " بليون " جرعة من هذا اللقاح منذ عام 1981 اثبت خلالها كفاءة عالية مع عدم حدوث أعراض جانبية. حينئذ لم تجد وزارة الصحة الفرنسية مفرا من الإعلان عن أنها أجرت دراستين منفصلتين على العلاقة بين اللقاح والأعراض العصبية الجانبية وأسفرت الدراستان عن عدم وجود أي علاقة. وهنا تزداد حيرتنا. فإذا كانت منظمة الصحة العالمية لم تجد أعراضا جانبية تذكر للقاح، والأدهى أن وزارة الصحة الفرنسية لم تجد هي الأخرى دليلا، على حدوث هذه الأعراض، فكيف تصدر هذه الوزارة نفسها قرارا بمنع التطعيم لمدة أربع سنوات؟ والخبراء بالقرارات المتعلقة بالصحة في فرنسا في الفترة الأخيرة يعرفون السبب. فهناك ثلاثة وزراء صحة سابقون يواجهون تهم مختلفة تتعلق بفشلهم في وضع قواعد صحية تضمن عدم تلوث أكياس الدم المنقولة للمرضي بفيروس الإيدز، وكذلك بتلوث جرعات من " هرمون النمو " والذي يعطى لبعض الأطفال مما أدى إلي مقتل العديد منهم. وقد آدت الحوادث السابقة إلي هياج الرأي العام الفرنسي مع ظهور هلع ضمن الأوساط الصحية الرسمية في فرنسا مما جعلها تحاول أن تلعب دائما في المضمون حتى تتجنب فضيحة صحية جديدة. وهكذا آدت فضائح صحية في مجالات مختلفة إلي حظر على لقاح مصنع بطرق الهندسة الوراثية – اثبت فاعلية وسلامة واضحتين على مستوى العالم – بما يعنيه ذلك من مد ظلال من الشك ليس فقط على هذا اللقاح ولكن على كل الوسائل العلاجية التي تعتمد على الهندسة الوراثية.
ومن هذا المثال ندرك كيف أن الغوغائية السياسية والمنفعة الشخصية يمكن أن تحطم القواعد الصحية للممارسة العلمية حتى في أكثر البلدان ديمقراطية وتقدما علميا. فما بالنا ببلدان كثيرة في العالم تتلمس طريقا مفروشا بأشواك الجهل والخزعبلات والموروثات الفاسدة نحو كل من الديمقراطية والتقدم العلمي.
على أن ما سبق عرضه لا يعنى دعوة للإلغاء التام لدور " الفطرة البشرية " للحكم على الأشياء وهى كذلك ليست إعلاء لقيمة المنطق العلمي على كل ما عداه من معايير بل على العكس هي دعوة إلي ما يمكن تسميته " كياسة العلم ". فالطبيب الناجح لابد أن يكون أولا ذا قدرة طبية فائقة لكنه محتاج أيضا إلي " كياسة طبية " تمكنه من التعامل مع المرض والمريض والأقربين إليه. فإذا نقلنا هذا المنطق لعلم البيولوجيا الجزئية لوجدنا أن حاجتنا اكبر لوضع قواعد أخلاقية للعلماء حتى نصل إلي هذه المرحلة من " كياسة العلماء " دون أن تكون هناك حاجة إلي منع تدريس أننا تطبيق هذا العلم فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
ولكن يبقي السؤال الأهم والذي يحتاج قبل الإجابة عليه إلي كثير من الدراسة وهو – ما هي المعايير وما هي ضمانات تطبيقها؟
أخلاق المنفعة ونفعية الأخلاق:
في مناقشة للأخوين " ايفان و إليوشا كارا مازوف " في رائعة " ديستويفسكى " الأخوة كارامازوف. يقول إيفان لأخيه إليوشا: " تخيل نفسك قائما بخلق مصير الإنسان، وان هدفك أن تجعل الإنسان سعيدا، وان تمنحه في النهاية الطمأنينة والراحة، ولكن كان الأمر يستلزم أن تعذب حتى الموت مخلوقا ضئيلا، ولم يكن هناك مفر من ذلك فهل توافق أن تكون منشئ الوجود الإنساني على هذا الشرط؟ فيجيبه أخوه إليوشا والمتمسك بالتعاليم الدينية " كلا أنى لن اقبل ذلك ". فيرد إيفان قائلا: " وهل تستطيع أن تسلم بفكرة أن الناس الذين تخلق من أجلهم الكون يوافقون على أن تكون سعادتهم قائمة على أساس دماء الضحية الصغيرة؟ وإنهم سيظلون سعداء إلي الأبد بعد قبول ذلك؟
والحقيقة أن هذه المناقشة بين الأخوين تمثل معضلة ونقطة خلاف كبيرة بين كثير من الفلاسفة، بل وكثير من البشر العاديين. فإذا تصادف أن ما يرضينا هو نفسه ما ينفعنا فهل يعنى هذا أن الفضيلة هي فيما ينفع؟! وحتى إذا سلمنا جدلا بهذا المذهب النفعي في الأخلاق فان هذا يشدنا إلي أسئلة أصعب أهمها هو من يضع حدود هذه المنفعة؟ هل هو المجتمع ككل أو الأفراد المستفيدون فقط؟. والحقيقة أن كلا الاختيارين محط بالمشكلات فإذا وضع كل فرد الحدود الأخلاقية طبقا لمنفعته الشخصية فان هذا – ولا محالة – سوف يؤدى إلي انهيار المجتمع نظرا لتعدد المعايير الأخلاقية داخله. أما إذا تعارف المجتمع على معايير أخلاقية لحدود المنفعة فان ذلك قد يعنى في بعض الأحيان سلب الفرد لحريته الخاصة في اختيار ما ينفعه. فمثلا إذا تعارف مجتمع ما على فرض قيود على استخدام بعض ناقلات الجينات الفيروسية في العلاج الجيني نظرا لمشكلات محتملة قد تسببها للمريض، ثم جاء مريض يعاني من السرطان وينتظر الموت نتيجة لفشل طرق العلاج التقليدية في علاجه، وكان أن الأخير في أن ينضم إلي بروتوكول علاج جيني يستخدم هذه الناقلات الفيروسية الممنوعة مع علمه الكامل بالأضرار المحتملة لها. والسؤال الآن هل نمنعه كمجتمع من حقه في علاج يتحمل هو مسئوليته؟. مع العلم أن اخطر ما يمكن أن تحدثه هذه الناقلات الفيروسية لمريض السرطان هذا المشرف على الموت – وباحتمال ضئيل – هو أن تصيبه بالسرطان.
والمشكلة هنا ليست في تلبية احتياجات فرد ما من المجتمع أو الحظر على تلبية هذه الرغبات، ولكن المشكلة الأكبر تتعلق بمستقبل هذه التكنولوجيا. فإذا تم الحظر من المنبع على نوع معين من التكنولوجيا بحجة أنها قد ينتج عنها تطبيقات لا أخلاقية، فمن المؤكد انك لن تمتلك مستقبلا الخبرة أو المعرفة الكافية بهذه التكنولوجيا إذا ثبت أنها لها تطبيقات أخرى غاية في الأهمية للمجتمع الذي فرض بنفسه الحظر عليها مسبقا. كما أن هذه التكنولوجيا لن تكون – في معظم الأحيان – معروضة للبيع أو الاستيراد من دول أخرى
وعلى ذلك تطفو على السطح مرة أخرى إشكالية الحظر على العلم ككل أو على إحدى وسائله؟ والحظر على تعلمه منذ البداية أو الحظر على واحد أو أكثر من تطبيقاته النهائية؟ ونعتقد أن هذه الأسئلة هي الجديرة بالدراسة والإجابة عليها خاصة من قبل دول العالم الثالث.
قواعد عامة ام تفاصيل مقيدة:
يحلو للعامة من الناس أن يضعوا فاصلا بين العلم كنشاط إنساني وغيره من الأنشطة الأخرى كالأدب والفن والتجارة وغيرها. وربما يرجع ذلك إلي عدم قدرتهم على استيعاب كل تفاصيله أو حتى فهم الكثير من الخطوط العامة له. على أن هذا العزل المصطنع للعلم له آثار جانبية عديدة على كل من المجتمع العلمي والمجتمع العام أهمها غياب التفاعل المشترك الذي يؤدى إلي اهتمام أكثر من العلماء بالمطالب الملحة لعامة الناس، وإلي فهم اكبر للعلم من قبل المجتمع مما يمكنه من وضع الضوابط المنظمة للأنشطة العلمية بصورة صحيحة. وكما أن الإدارة الناجحة بصفة عامة تتطلب وضع منظومات واضحة من القواعد التي تضمن الإشراف على سير العمل دون التدخل المباشر في التفاصيل الدقيقة له والذي يسمونه "Micromanagement ". ذلك لان الدخول في هذه التفاصيل يضيع على هذه الإدارة الكثير من الوقت والجهد والمال أيضا، كما انه من ناحية أخرى يحد من روح الابتكار لدى المتخصصين والقائمين على العمل نفسه والذين يجب أن يترك لهم العناية بهذه التفصيلات الدقيقة لكونهم أدرى بها.
وعلى ذلك نجد أن معظم اللوائح المنظمة لنشاطات البحث البيولوجي والطبي في دول العالم المتقدم، وكذلك اللوائح المعتمدة من المنظمات العالمية، تضع قواعد غاية في العمومية، يجب على العاملين في هذه المجالات عدم تخطيها – دون وضع تفاصيل معوقة أو قوانين للحظر والمنع – إلا في حالات نادرة سنتعرض لها لاحقا. ويرجع ذلك لسبب بسيط ومهم وهو أن هذه الدول ترى انه يمكن من خلال هذه القواعد العامة السيطرة على الشطحات العلمية المحتملة، ولكن دون أن تفقد الدولة تقدمها العلمي أو قدرتها التنافسية في المستقبل، والذي لا يمكن أن يتوافرا إلا من خلال مناخ علمي غير مقيد لحرية العلماء في البحث أو التجريب. وحتى في الأمام النادرة لقوانين حظر نشاط علمي ما سنجد أن هذا الحظر صدر لمدة زمنية مؤقتة ( غالبا ما تكون من خمس إلي عشر سنوات ) تكون قد اتضحت خلالها الرؤية وعندئذ يتم اتخاذ القرار إما برفع الحظر أو تجديده. ونعود لنؤكد على أن هذا النوع الحميد من ضبط النفس في سن القوانين المنظمة للعلم في الدول المتقدمة يرجع أو ما يرجع إلي حرصها الذي لا يرقي إلي الشك على عدم فقد قصبة السبق في الصراع العلمي المحتدم، وذلك لان هذه الدول تعرف جيدا أن التقدم العلمي سيكون هو الفيصل في تحديد أقدار الأمم في السنوات القادمة.
منظمة اليونسكو تقدم النموذج:
في اجتماعها العام المنعقد في باريس في نوفمبر من عام 1997 أصدرت منظمة اليونسكو إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة " الإعلان العالمي للجينوم البشري وحقوق الإنسان " والذي يشمل خمسا وعشرين مادة تعني جميعها بالقواعد التنظيمية لأبحاث وتجارب البيولوجيا الجزئية على الإنسان. والتقرير يقدم نموذجا رائعا يجب إتباعه حينما تقرر دولة ما وضع قواعدها التنظيمية الخاصة لهذا الفرع من العلم. والتقرير يحتوى على فصول أساسية منها الفصل الخاص عن " الجينوم البشري والكرامة الإنسانية " وفيه تقرر المنظمة أن الجينوم البشري يعكس بصورة رمزية تراثا إنسانيا يدل على التوحد، وان الاختلافات الضئيلة التي يعكسها هذا الجينوم بين البشر أمثلة تعني التنوع المحمود بين الأجناس دون انتقاض من قيمة جنس ما.
كما أكد التقرير على ضرورة أن تكون المعلومات الناتجة عن الأبحاث على الجينوم البشري متاحة لكل الدول دون انتقاص. وفي الفصل الخاص بالأبحاث على الجينوم البشري تقرر المنظمة انه لا يجب أن تعلو قيمة أي بحث أهمها تطبيق في هذا المجال على قيمة الكرامة الإنسانية أو قيمة الحرية الشخصية للإنسان – كما يدعو التقرير إلي أن تتجه هذه الأبحاث سواء في مجال البيولوجيا أو الوراثة أو الطب إلي رفع المعاناة وتحسين صحة الجنس البشري. ولا يفوت التقرير أن يؤكد على أن حرية البحث العلمي هي جزء لا يتجزأ من حرية التفكير التي تكفلها القوانين الدولية.
أما في الفصل الخاص بحقوق الأفراد الذين تشملهم الأبحاث أو تجارب العلاج فيؤكد التقرير على ضرورة اخذ موافقة هؤلاء الأفراد وذلك بعد اطلاعهم على كافة التفاصيل الخاصة بالبحث والتجربة. كما أكد أن كافة الأمر المتعلقة باستخدام الجينوم البشري كمادة للبحث أو التشخيص أو العلاج لابد وان تخضع لتقييم جاد وشامل من حيث الفوائد المحتملة لها.
وفي الفصل الخاص " باشتراطات ممارسة النشاط العلمي " لم يضع التقرير أي شروط جديدة لممارسة النشاط العلمي الخاص بالأبحاث على الجينوم البشري. لكنه في الوقت نفسه أكد على أن هذه الأبحاث، ونظرا للتداعيات الأخلاقية والمجتمعية التي يمكن أن تنشا عنها، لابد وان تتقيد أكثر من غيرها – من الأبحاث العلمية الأخرى – بالشروط المعتادة لممارسة البحث العلمي من حيث توافر الجدية والدقة والحذر وكذلك الكفاءة والأمانة العلمية سواء في أداء البحث أو عرض نتائجه أو في تطبيق هذه النتائج.
كما يضم التقرير أيضا ثلاثة فصول تهتم بوسائل التعاون بين الدول المختلفة لتبادل نتائج الأبحاث في هذا المجال خاصة من الدول المتقدمة إلي الدول النامية، وكذلك تعني هذه الفصول بكيفية ترويج الكيميائية التي يتضمنها هذا الإعلان، والوسائل الكفيلة لضمان تطبيق هذه المواد مع ترك الحرية للدول المختلفة في وضع إطار العمل الخاص بها لوضع هذه التوصيات موضع التنفيذ.
وبذلك يكون هذا الإعلان العالمي قد وضع قواعد عامة تتضمن التأكد من سلامة البحث أو المنتج وعدم أضراره بالإنسان. كذلك محاولة التأكد من أن البحث سوف يكون لمصلحة الجنس البشري، مع الأخذ في الاعتبار الالتزام بالمعايير العلمية السليمة في إجراء البحث أو تطبيقه، وأخيرا ضرورة اخذ موافقة الشخص الخاضع لإجراء البحث أو العلاج أو خلافه بعد كافة التفاصيل المتعلقة بالفوائد المرجوة أو الأضرار المحتملة.
وهنا نرى أن إعلان منظمة اليونسكو قد راعي الحفاظ على حرية البحث، مع الاحتفاظ بحق المجتمع في الرقابة على الأمر العلمية المختلفة، حفاظا على الكرامة الإنسانية وبما لا يتعارض مع الإعلام العالمي بحقوق الإنسان ولكن دون الحظر على إبداع العلماء. وتأتى هذه الرؤية المتوازنة والمتعلقة من واضعي هذا الإعلان لإدراكهم مدى الفائدة التي يمكن أن تعم على الجنس البشري من وراء هذه الأبحاث وذلك في مستقبل ليس ببعيد على أية حال.
العلم يتقدم والقوانين تتأرجح:
ربيع1997 وبعد شهور قليلة من صدمة ( الاستنساخ ) Clonning التي أعلنها " ويلموت " وفريقه العلمي، اجتمعت المجموعة المنوطة بأخلاقيات التكنولوجيا الحيوية لدول الاتحاد الأوربي بإبداء رأيها في الخطة الخمسية للبحوث العلمية التي بموالها الاتحاد، وقد اقترحت أن يشجب الاتحاد الأوربي أي محاولة تهدف إلي استنساخ الأجنة البشرية سواء حية أو ميتة. وفي خريف نفس العام انعقد في " ستراسبورج " مؤتمر قمة الاتحاد الأوربي واصدر قرارا بمنع أي وسيلة تهدف إلي استنساخ كائنات بشرية متشابهة جينيا. كما اصدر مؤتمر القمة أوامره إلي المجلس الوزاري لدول الاتحاد بسرعة إصدار قانون بهذا الشأن يضاف كمادة جديدة إلي ميثاق الاتحاد الأوربي ضمن فقراته المتعلقة بالبحوث والممارسات الطبية وأثرها على حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية. وما هو أفكاره شهر واحد فقط وبالتحديد في 6 نوفمبر1997، اصدر الاتحاد الأوروبي هذه الفقرة الجديدة والمكونة من ثلاث مواد تعني جميعها بحذر الاستنساخ البشري أو الأبحاث التي قد تؤدى إلي ذلك.
ولكن وبعد عام بالتمام والكمال في نوفمبر 1998 أصدرت المجموعة الأوروبية لأخلاقيات العلم والتكنولوجيا الحديثة عدة توصيات أهم انه لا يجب حجب التمويل بصورة كلية عن الأبحاث المتعلقة بالأجنة البشرية من خلال الخطة الخمسية للأبحاث الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي، وأوصت أن يتم السماح بالتمويل ولكن طبقا لمواصفات كثيرة أهم التقييم الأخلاقي لمشروع البحث من قبل لجان الاتحاد وان تخضع هذه الأبحاث لرقابة شعبية مكثفة تكفل الشفافية القصوى سواء أكان البحث يتم في قطاع حكومي أو خاص.
أما في أمريكا فلم يختلف الأمر كثيراً، فقد اصدر الكونجرس الأمريكي في عام 1998 قراراً بحظر استخدام الأموال الفيدرالية في تمويل الأبحاث المستخدمة للأجنة البشرية كما، اصدر حظرا لمدة 5 سنوات على أي تجربة استنساخ أجنة بشرية. ولكن وفي الثالث عشر من سبتمبر عام 1999 تم إرسال تقرير من ( المجلس الاستشاري الأمريكي للأخلاقيات البيولوجية )، وهو مجلس استشاري شبه حكومي، إلي الرئيس " بيل كلينتون " يدعوه إلي النظر في مخاطبة الكونجرس بشان الرفع الجزئي لهذا الحظر المفروض على الأبحاث في مجال الأجنة البشرية. وقد استند التقرير في دعواه على انه لا يجوز تجاهل الفوائد الطبيعية الكثيرة والمنتظرة من استخدام الخلايا الجنينية الجذعية ( Human Empryonic Stem Cells ) وطرق العلاج الجيني للجنين داخل الرحم ( In- Utero Gene Therapy ) في علاج الكثير من الأمراض. وكما فعلت أوروبا، فعل دكتور " هارولد شابيرو " رئيس اللجنة السالف ذكرها وباعث التقرير للرئيس الأمريكي، فقد أكد أولئك على المبدأ العام لاحترام الأجنة البشرية وعدم المتاجرة بها، ثم اقترح تكوين لجنه دائمة – تشمل بعض الشخصيات العامة من غير العلماء – لمراجعة مصدر الخلايا الجنينية المستخدمة في بروتوكولات البحث أو العلاج الممولة فيدراليا، والتأكد من أنها مستمدة من مصادر غير مخالفة أخلاقيا أو قانونيا. ومازالت هذه الاقتراحات تثير الكثير من التساؤل في الأهمية العلمية والشعبية بالولايات المتحدة، ومن المرجح أن رفعا جزئيا لهذا الحظر المفروض من قبل الكونجرس قد يحدث قريبا.
فالعلماء يضغطون بشدة في اتجاه رفع هذا الحظر وفي جعبتهم الكثير من الأوراق الرابحة أهم دروس التاريخ، ففي أوائل السبعينات حدثت مناقشات ومداولات كثيرة بغرض منع استخدام تكنولوجيا الحامض النووي المهجن"Recombinant DNA Technology " والتي كانت مستحدثة في هذا الوقت. ويشير العلماء إلي أن التاريخ قد اثبت خطا السياسيين وأعضاء الكونجرس الذين أرادوا حظر هذه التكنولوجيا. فها هي الأفكار قد حققت العديد من الإنجازات وفي سبيلها لتغيير وجه العالم. ويرى العلماء أن الاتجاه إلي حظر التجارب الجديدة هو نوع من التمسك بمبادئ أثبتت الأيام فشلها وسطحيتها، كما يشيرون إلي انه لم يسبق للكونجرس الأمريكي في تاريخه كله أن شرع قانونا واحدا يضع حظر على أي بحث في أي مجال للعلوم أو الطب. وعلى ذلك يكون رفع الحظر الجزئي عن التجارب التي تهدف إلي الاستفادة من تقنيات الاستنساخ في مجال العلاج – هو في نظر هؤلاء العلماء – طريقا يفتحونه للكونجرس لتصحيح خطئه التاريخي بالحظر على هذا النوع من التجارب.
وهكذا نجد أن قدرة العلماء على التجديد في مجال التكنولوجيا الحيوية تفوق دائما قدرة المجتمع على استيعاب هذه الإنجازات، كما تفوق قدرة المشرعين على وضع القوانين. وكذلك تمثل هذه الأمام المذكورة في هذه الفقرة كيف يمكن للتقدم العلمي السريع والمطرد أن يجعل القوانين المنظمة تتآكل في زمن وجيز وتتغير في وقت اكثر أي.
هل نقتل الأفعى الكونية في بيضتها؟!
من الأشياء المثيرة للاهتمام أن بعض الكهنة الهنود في أمريكا اللاتينية يتعاطون بعض الأعشاب المحلية التي تجعلهم يدخلون في حالة من اللاوعي والانفصال عن العالم المحيط بهم. وهم يدعون انه عندما تنتابهم هذه الحالة يصبحون قادرين على استكشاف المستقبل والتعرف على أسرار الحياة. وعندما أعطاهم أحد العلماء ورقة وقلما ليرسموا ما يشاهدونه أثناء نوبة الهذيان هذه كانت رسوماتهم عبارة عن أشكال لأشياء مختلفة تشبه في مجملها الشكل الحلزوني المزدوج للدنا. على أن الرسم الأكبر وضوحا كان عبارة عن شكل أفعي تحمل معها ظلالها وتتلوى بحيث تبدو قريبة الشبه جدا بجزيء الدنا. ونحن الأفكار لسنا بصدد تصديق ادعاءات هؤلاء الكهنة بشان معرفتهم بسر الحياة ولكننا بصدد التدقيق فيما رسموه. فجزيء الدنا يمكن تصويره فعلا- كما وصفه أحد العلماء- على انه " أفعي كونية " "Cosmic serpent " إذ انه يمثل الشفرة الوراثية لكل الكائنات الحية، كما أن التطبيقات الناتجة عن تزايد المعرفة به تبدو وكأنها قادرة على تغيير وجه الحياة. أفكاره أن الجانب المظلم لهذا الجزيء تمثله الطبيعة الافعوانية لهذه الحية. فرغم أن العلماء يعتقدون أنهم قد روضوها لمنفعتهم ولمنفعة البشرية أفكاره أن الكثير من أسرارها مازال خفيا والوقت الذي يمكن أن تلدغ فيه هذه الأفعى ابعد ما يكون عن إدراك البشر. فكما أن كل أفعي لابد وان تلدغ، فان بعض التطبيقات المنحرفة للهندسة الوراثية قد تكون هي لدغة هذه الأفعى. والسؤال الذي حاولنا عرضه للمناقشة في الصفحات السابقة هو كيف نتقي شر هذه اللدغة دون أن نحاول أن نقتل الأفعى في بيضتها فنمنع عن البشرية خيرا كثيرا بغرض درء الخطر. وقديما صور " شكسبير " صراعا داخليا كهذا متمثلا في " بروتس " وحيرته في أن يقتل أو لا يقتل " يوليوس قيصر "، وكانت الدوافع لقتله انه مثل الحية إذا خرجت من بيضتها فالكتلة سوف تنساق تبعا لطبيعتها وتحدث أخطارا كثيرة. ونحن نعرف من التاريخ ماذا حدث لبروتس وغيره ممن خططوا لقتل " يوليوس قيصر "، ونعرف انه لم يبق للتاريخ أفكاره " يوليوس قيصر " ومن دافعوا عنه مع ملاحظة أن أداءه كان يجب أن يخضع للتقويم وليس للقتل. والآن لسنا بصدد من نناصر من شخصيات التاريخ. ولكننا بصدد ما هو الدور الذي نختاره ليحملنا إلي المستقبل.
*************
حين ازدهرت معظم العلوم إبان عصر النهضة في أوربا، كان علم البيولوجيا هو اقلها نصيبا من هذا النهوض. وربما يرجع ذلك إلي أن علماء عصر النهضة والعصور التي تلته كانوا مبهورين ومشدودين للتعرف على أسرار الكون من حولهم كحركة الأجرام السماوية وتفاعل المواد وغيرها. ولذلك كانت علوم كالفلك والكيمياء والفيزياء هي الأوفر حظا من البحث والتجريب والأوفر نصيبا من ذيوع الصيت بينما بقي علم وعلماء البيولوجيا هم الأقل شانا وشهرة. على أن هذه الحالة من التجاهل بدأت تتآكل بالتدريج خاصة في القرن التاسع عشر حيث جذبت علوم جديدة كعلم التطور وعلم الوراثة كثيرا من الأضواء والاهتمام. لكن التغير الأكبر من حالة التجاهل الشديد إلي حالة الولع بالبيولوجيا قد تم مع ثورة البيولوجيا الجزيئية واكتشاف التركيب الأساسي للدنا مع ما استتبع ذلك من تطبيقات فاقت كل تخيل. وكانت هذه الثورة البيولوجية هي المؤشر الأول لانتقال عقول عظيمة في كل أنحاء العالم من دراسة العالم الخارجي إلي دراسة عالم أكثر إبهارا موجود بداخلنا يعج بكثير من العجائب والمعجزات كما انه لا يفتقر إلي تطبيقات عملية تحمل معها الكثير من المجد والثروة.
وهكذا انتقت مقولة الكاتب الفرنسي " مونتني " عن " المهرج الوحيد " والتي تقول: " ما عداك أيها الإنسان، فكل شيء في الوجود قد عرف نفسه وليس هناك ما هو أكثر فراغا وفقرا منك، أنت الذي يتمثل الكون فيك. انك باحث ولا معرفة، قاض ولا قضاء، وبعد فأنت المهرج الوحيد في هذه الهزلية البشرية ". فأخيرا انكب المهرج الوحيد لدراسة نفسه وغيره من الكائنات برغبة مهولة وشبق لا يرتوي وكأنه يحاول – انطلاقا من عقدة المهرج الوحيد هذه – أن يعوض ما فاته من قرون عديدة، لم يستثمرها في دراسة نفسه. وهنا تكمن المعضلة، فالمتابع لحجم الأبحاث والإنجازات المطردة للبيولوجيا الجزيئية، يدرك أن هناك رغبة عارمة في مواصلة البحث وطرق آفاق المجهول بأي ثمن وبأي طريقة وهنا يأتي دور " الفرامل " المسماة " بأخلاقيات العلم " للحد من سرعة وقوة " كرة الجليد " المنحدرة من أعلى جبل الثلج حتى لا تسقط فوق رأس البشرية كلها. ولكن السؤال الصعب هو ما دور هذه الأخلاقيات، وهل تستطيع أن تلاحق التقدم البالغ السرعة لهذه الثورة البيولوجية؟!!
قواعد أخلاقية للعلم أم للعلماء:
هناك مونولوج في " فاوست " رائعة الشاعر الألماني " جوته " يقول " أيتها الرسالة السامية! قبلنا، قبلي أنا، لم يكن العالم موجودا، لقد انتزعت الشمس من وسط الهاوية، وإن القمر ليسير في مداره. إن النهار حين أتى قد أصبح جميلا تحت إقدامي، والأرض علاها وشى من الخضرة والأزهار، وموكب النجوم الذهبية قد بزغ في السماء القدسية في الليلة الأولى بفضل يدي، وإن لم يكن أنا فمن إذن الذي حطم القوانين البائسة التي أثقلت كاهل الأرض".
لن يكون من المستغرب أن نسمع مونولوجا شبيها بهذا من أحد علماء الهندسة الوراثية وهو مهتاج من نشوة ما أتيح له بفضل هذا العلم من أن فصل و تعديل ونقل للجينات الوراثية مخدوعا بأنه أصبح إلهاً أو حتى نصف إله. ولكن هل يعنى هذا أن كل علماء هذه الثورة العلمية الجديدة على هذا المنوال؟ والإجابة انه على العكس من ذلك فمعظم علمائها مطبوعون على التواضع العميق إزاء ما يتبدى لهم كل يوم من أسرار وحقائق مذهلة، وهم في تواضعهم هذا أتقياء حقا يمدون أبصارهم إلي الآفاق البعيدة، وكأنهم أناس صائرون لا يتوقفون. وما بين الموقفين المتباينين لعلماء الهندسة الوراثية يأتي المجتمع ليبحث عن دوره في وضع الضوابط الأخلاقية لهذا العلم حتى لا يخرج عن مساره. وهنا بالضبط تكمن المشكلة حيث قد يصبح سلوك بعض العلماء في فرع ما من العلم هو المعيار الذي على أساسه نقيم أحكامنا الخلقية على العلم نفسه دون دراية كافية بأبعاده وتفاصيله. وليس بعيدا عن الحسبان أن استخداما خاطئا لمعيار خاطئ يعتمد على الناحية الوجدانية من حيث الشعور بالرضا والغضب كمعيار وحيد في الحكم على احدث واعقد فروع العلم هو منتهي العشوائية. وتتضاعف المأساة عندما نتذكر أن الأحكام الخلقية هي في مضمونها أحكام مؤبدة تشتمل دائما على معنى الوجوب مما قد يؤدى إلي المنع في بعض البلدان أما في بلدان أخرى كبلادنا حيث يلعب الدين دورا رئيسيا في حياة كل الناس قد يصل الأمر إلي درجة التحريم. ومن حيث المبدأ فالمنع والتحريم مطلوبان لوقف ممارسة علمية غير مرغوب فيها ولكن – وآه من كلمة لكن – حين تكون حيثيات المنع أو التحريم مستقاة من معرفة واضحة بالتفاصيل العلمية، ومبينة على معايير منطقية لا يشوبها التهافت أو تلوثها العاطفة.
فحرية تدفق المعلومات الصحيحة عن " علم " ما إلي جمهور الناس، والمعرفة الصحيحة بتفاصيله وآفاقه لدى القائمين على سن القوانين المنظمة له هما الركيزة الأساسية لوضع قواعد أخلاقية صحيحة فكما يقول أحد الفلاسفة: " إن ما يزعج الإنسان ويبعث الاضطراب إلي قلبه ليس الأشياء ذاتها، بل أفكاره ومعتقداته الخاصة بهذه الأشياء ".
وفى عصرنا الحالي يمكن أن يضاف إلي ذلك ما تبعثه وسائل الإعلام ومناورات الساسة من اضطراب في معتقدات العامة من الناس بخصوص شيء ما. وأول نموذج على ذلك هو ما فعلته الحكومة الفرنسية في أواخر عام 1998 بحظر تطعيم أطفال المدارس ضد الالتهاب الكبدي الوبائي (ب) والذي يستخدم فيه لقاحاً مصنع بوسائل الهندسة الوراثية بحجة انه ربما يكون له علاقة بنشوء بعض الأمراض التي تصيب الجهاز العصبي. ومن المعروف أن هذا اللقاح قد تم تعميمه بواسطة منظمة الصحة العالمية ويتم التطعيم الإجباري به في معظم دول العالم. وهنا يجب أن نسأل عن الدوافع التي جعلت الحكومة الفرنسية تتخذ قرارها السابق؟ والحقيقة أن هذه الدوافع كانت – للأسف – غير علمية على الإطلاق. فعندما ردت منظمة الصحة العالمية وبعنف على القرار الفرنسي معلنة انه قد تم استهلاك أكثر من " بليون " جرعة من هذا اللقاح منذ عام 1981 اثبت خلالها كفاءة عالية مع عدم حدوث أعراض جانبية. حينئذ لم تجد وزارة الصحة الفرنسية مفرا من الإعلان عن أنها أجرت دراستين منفصلتين على العلاقة بين اللقاح والأعراض العصبية الجانبية وأسفرت الدراستان عن عدم وجود أي علاقة. وهنا تزداد حيرتنا. فإذا كانت منظمة الصحة العالمية لم تجد أعراضا جانبية تذكر للقاح، والأدهى أن وزارة الصحة الفرنسية لم تجد هي الأخرى دليلا، على حدوث هذه الأعراض، فكيف تصدر هذه الوزارة نفسها قرارا بمنع التطعيم لمدة أربع سنوات؟ والخبراء بالقرارات المتعلقة بالصحة في فرنسا في الفترة الأخيرة يعرفون السبب. فهناك ثلاثة وزراء صحة سابقون يواجهون تهم مختلفة تتعلق بفشلهم في وضع قواعد صحية تضمن عدم تلوث أكياس الدم المنقولة للمرضي بفيروس الإيدز، وكذلك بتلوث جرعات من " هرمون النمو " والذي يعطى لبعض الأطفال مما أدى إلي مقتل العديد منهم. وقد آدت الحوادث السابقة إلي هياج الرأي العام الفرنسي مع ظهور هلع ضمن الأوساط الصحية الرسمية في فرنسا مما جعلها تحاول أن تلعب دائما في المضمون حتى تتجنب فضيحة صحية جديدة. وهكذا آدت فضائح صحية في مجالات مختلفة إلي حظر على لقاح مصنع بطرق الهندسة الوراثية – اثبت فاعلية وسلامة واضحتين على مستوى العالم – بما يعنيه ذلك من مد ظلال من الشك ليس فقط على هذا اللقاح ولكن على كل الوسائل العلاجية التي تعتمد على الهندسة الوراثية.
ومن هذا المثال ندرك كيف أن الغوغائية السياسية والمنفعة الشخصية يمكن أن تحطم القواعد الصحية للممارسة العلمية حتى في أكثر البلدان ديمقراطية وتقدما علميا. فما بالنا ببلدان كثيرة في العالم تتلمس طريقا مفروشا بأشواك الجهل والخزعبلات والموروثات الفاسدة نحو كل من الديمقراطية والتقدم العلمي.
على أن ما سبق عرضه لا يعنى دعوة للإلغاء التام لدور " الفطرة البشرية " للحكم على الأشياء وهى كذلك ليست إعلاء لقيمة المنطق العلمي على كل ما عداه من معايير بل على العكس هي دعوة إلي ما يمكن تسميته " كياسة العلم ". فالطبيب الناجح لابد أن يكون أولا ذا قدرة طبية فائقة لكنه محتاج أيضا إلي " كياسة طبية " تمكنه من التعامل مع المرض والمريض والأقربين إليه. فإذا نقلنا هذا المنطق لعلم البيولوجيا الجزئية لوجدنا أن حاجتنا اكبر لوضع قواعد أخلاقية للعلماء حتى نصل إلي هذه المرحلة من " كياسة العلماء " دون أن تكون هناك حاجة إلي منع تدريس أننا تطبيق هذا العلم فيما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
ولكن يبقي السؤال الأهم والذي يحتاج قبل الإجابة عليه إلي كثير من الدراسة وهو – ما هي المعايير وما هي ضمانات تطبيقها؟
أخلاق المنفعة ونفعية الأخلاق:
في مناقشة للأخوين " ايفان و إليوشا كارا مازوف " في رائعة " ديستويفسكى " الأخوة كارامازوف. يقول إيفان لأخيه إليوشا: " تخيل نفسك قائما بخلق مصير الإنسان، وان هدفك أن تجعل الإنسان سعيدا، وان تمنحه في النهاية الطمأنينة والراحة، ولكن كان الأمر يستلزم أن تعذب حتى الموت مخلوقا ضئيلا، ولم يكن هناك مفر من ذلك فهل توافق أن تكون منشئ الوجود الإنساني على هذا الشرط؟ فيجيبه أخوه إليوشا والمتمسك بالتعاليم الدينية " كلا أنى لن اقبل ذلك ". فيرد إيفان قائلا: " وهل تستطيع أن تسلم بفكرة أن الناس الذين تخلق من أجلهم الكون يوافقون على أن تكون سعادتهم قائمة على أساس دماء الضحية الصغيرة؟ وإنهم سيظلون سعداء إلي الأبد بعد قبول ذلك؟
والحقيقة أن هذه المناقشة بين الأخوين تمثل معضلة ونقطة خلاف كبيرة بين كثير من الفلاسفة، بل وكثير من البشر العاديين. فإذا تصادف أن ما يرضينا هو نفسه ما ينفعنا فهل يعنى هذا أن الفضيلة هي فيما ينفع؟! وحتى إذا سلمنا جدلا بهذا المذهب النفعي في الأخلاق فان هذا يشدنا إلي أسئلة أصعب أهمها هو من يضع حدود هذه المنفعة؟ هل هو المجتمع ككل أو الأفراد المستفيدون فقط؟. والحقيقة أن كلا الاختيارين محط بالمشكلات فإذا وضع كل فرد الحدود الأخلاقية طبقا لمنفعته الشخصية فان هذا – ولا محالة – سوف يؤدى إلي انهيار المجتمع نظرا لتعدد المعايير الأخلاقية داخله. أما إذا تعارف المجتمع على معايير أخلاقية لحدود المنفعة فان ذلك قد يعنى في بعض الأحيان سلب الفرد لحريته الخاصة في اختيار ما ينفعه. فمثلا إذا تعارف مجتمع ما على فرض قيود على استخدام بعض ناقلات الجينات الفيروسية في العلاج الجيني نظرا لمشكلات محتملة قد تسببها للمريض، ثم جاء مريض يعاني من السرطان وينتظر الموت نتيجة لفشل طرق العلاج التقليدية في علاجه، وكان أن الأخير في أن ينضم إلي بروتوكول علاج جيني يستخدم هذه الناقلات الفيروسية الممنوعة مع علمه الكامل بالأضرار المحتملة لها. والسؤال الآن هل نمنعه كمجتمع من حقه في علاج يتحمل هو مسئوليته؟. مع العلم أن اخطر ما يمكن أن تحدثه هذه الناقلات الفيروسية لمريض السرطان هذا المشرف على الموت – وباحتمال ضئيل – هو أن تصيبه بالسرطان.
والمشكلة هنا ليست في تلبية احتياجات فرد ما من المجتمع أو الحظر على تلبية هذه الرغبات، ولكن المشكلة الأكبر تتعلق بمستقبل هذه التكنولوجيا. فإذا تم الحظر من المنبع على نوع معين من التكنولوجيا بحجة أنها قد ينتج عنها تطبيقات لا أخلاقية، فمن المؤكد انك لن تمتلك مستقبلا الخبرة أو المعرفة الكافية بهذه التكنولوجيا إذا ثبت أنها لها تطبيقات أخرى غاية في الأهمية للمجتمع الذي فرض بنفسه الحظر عليها مسبقا. كما أن هذه التكنولوجيا لن تكون – في معظم الأحيان – معروضة للبيع أو الاستيراد من دول أخرى
وعلى ذلك تطفو على السطح مرة أخرى إشكالية الحظر على العلم ككل أو على إحدى وسائله؟ والحظر على تعلمه منذ البداية أو الحظر على واحد أو أكثر من تطبيقاته النهائية؟ ونعتقد أن هذه الأسئلة هي الجديرة بالدراسة والإجابة عليها خاصة من قبل دول العالم الثالث.
قواعد عامة ام تفاصيل مقيدة:
يحلو للعامة من الناس أن يضعوا فاصلا بين العلم كنشاط إنساني وغيره من الأنشطة الأخرى كالأدب والفن والتجارة وغيرها. وربما يرجع ذلك إلي عدم قدرتهم على استيعاب كل تفاصيله أو حتى فهم الكثير من الخطوط العامة له. على أن هذا العزل المصطنع للعلم له آثار جانبية عديدة على كل من المجتمع العلمي والمجتمع العام أهمها غياب التفاعل المشترك الذي يؤدى إلي اهتمام أكثر من العلماء بالمطالب الملحة لعامة الناس، وإلي فهم اكبر للعلم من قبل المجتمع مما يمكنه من وضع الضوابط المنظمة للأنشطة العلمية بصورة صحيحة. وكما أن الإدارة الناجحة بصفة عامة تتطلب وضع منظومات واضحة من القواعد التي تضمن الإشراف على سير العمل دون التدخل المباشر في التفاصيل الدقيقة له والذي يسمونه "Micromanagement ". ذلك لان الدخول في هذه التفاصيل يضيع على هذه الإدارة الكثير من الوقت والجهد والمال أيضا، كما انه من ناحية أخرى يحد من روح الابتكار لدى المتخصصين والقائمين على العمل نفسه والذين يجب أن يترك لهم العناية بهذه التفصيلات الدقيقة لكونهم أدرى بها.
وعلى ذلك نجد أن معظم اللوائح المنظمة لنشاطات البحث البيولوجي والطبي في دول العالم المتقدم، وكذلك اللوائح المعتمدة من المنظمات العالمية، تضع قواعد غاية في العمومية، يجب على العاملين في هذه المجالات عدم تخطيها – دون وضع تفاصيل معوقة أو قوانين للحظر والمنع – إلا في حالات نادرة سنتعرض لها لاحقا. ويرجع ذلك لسبب بسيط ومهم وهو أن هذه الدول ترى انه يمكن من خلال هذه القواعد العامة السيطرة على الشطحات العلمية المحتملة، ولكن دون أن تفقد الدولة تقدمها العلمي أو قدرتها التنافسية في المستقبل، والذي لا يمكن أن يتوافرا إلا من خلال مناخ علمي غير مقيد لحرية العلماء في البحث أو التجريب. وحتى في الأمام النادرة لقوانين حظر نشاط علمي ما سنجد أن هذا الحظر صدر لمدة زمنية مؤقتة ( غالبا ما تكون من خمس إلي عشر سنوات ) تكون قد اتضحت خلالها الرؤية وعندئذ يتم اتخاذ القرار إما برفع الحظر أو تجديده. ونعود لنؤكد على أن هذا النوع الحميد من ضبط النفس في سن القوانين المنظمة للعلم في الدول المتقدمة يرجع أو ما يرجع إلي حرصها الذي لا يرقي إلي الشك على عدم فقد قصبة السبق في الصراع العلمي المحتدم، وذلك لان هذه الدول تعرف جيدا أن التقدم العلمي سيكون هو الفيصل في تحديد أقدار الأمم في السنوات القادمة.
منظمة اليونسكو تقدم النموذج:
في اجتماعها العام المنعقد في باريس في نوفمبر من عام 1997 أصدرت منظمة اليونسكو إحدى المنظمات التابعة للأمم المتحدة " الإعلان العالمي للجينوم البشري وحقوق الإنسان " والذي يشمل خمسا وعشرين مادة تعني جميعها بالقواعد التنظيمية لأبحاث وتجارب البيولوجيا الجزئية على الإنسان. والتقرير يقدم نموذجا رائعا يجب إتباعه حينما تقرر دولة ما وضع قواعدها التنظيمية الخاصة لهذا الفرع من العلم. والتقرير يحتوى على فصول أساسية منها الفصل الخاص عن " الجينوم البشري والكرامة الإنسانية " وفيه تقرر المنظمة أن الجينوم البشري يعكس بصورة رمزية تراثا إنسانيا يدل على التوحد، وان الاختلافات الضئيلة التي يعكسها هذا الجينوم بين البشر أمثلة تعني التنوع المحمود بين الأجناس دون انتقاض من قيمة جنس ما.
كما أكد التقرير على ضرورة أن تكون المعلومات الناتجة عن الأبحاث على الجينوم البشري متاحة لكل الدول دون انتقاص. وفي الفصل الخاص بالأبحاث على الجينوم البشري تقرر المنظمة انه لا يجب أن تعلو قيمة أي بحث أهمها تطبيق في هذا المجال على قيمة الكرامة الإنسانية أو قيمة الحرية الشخصية للإنسان – كما يدعو التقرير إلي أن تتجه هذه الأبحاث سواء في مجال البيولوجيا أو الوراثة أو الطب إلي رفع المعاناة وتحسين صحة الجنس البشري. ولا يفوت التقرير أن يؤكد على أن حرية البحث العلمي هي جزء لا يتجزأ من حرية التفكير التي تكفلها القوانين الدولية.
أما في الفصل الخاص بحقوق الأفراد الذين تشملهم الأبحاث أو تجارب العلاج فيؤكد التقرير على ضرورة اخذ موافقة هؤلاء الأفراد وذلك بعد اطلاعهم على كافة التفاصيل الخاصة بالبحث والتجربة. كما أكد أن كافة الأمر المتعلقة باستخدام الجينوم البشري كمادة للبحث أو التشخيص أو العلاج لابد وان تخضع لتقييم جاد وشامل من حيث الفوائد المحتملة لها.
وفي الفصل الخاص " باشتراطات ممارسة النشاط العلمي " لم يضع التقرير أي شروط جديدة لممارسة النشاط العلمي الخاص بالأبحاث على الجينوم البشري. لكنه في الوقت نفسه أكد على أن هذه الأبحاث، ونظرا للتداعيات الأخلاقية والمجتمعية التي يمكن أن تنشا عنها، لابد وان تتقيد أكثر من غيرها – من الأبحاث العلمية الأخرى – بالشروط المعتادة لممارسة البحث العلمي من حيث توافر الجدية والدقة والحذر وكذلك الكفاءة والأمانة العلمية سواء في أداء البحث أو عرض نتائجه أو في تطبيق هذه النتائج.
كما يضم التقرير أيضا ثلاثة فصول تهتم بوسائل التعاون بين الدول المختلفة لتبادل نتائج الأبحاث في هذا المجال خاصة من الدول المتقدمة إلي الدول النامية، وكذلك تعني هذه الفصول بكيفية ترويج الكيميائية التي يتضمنها هذا الإعلان، والوسائل الكفيلة لضمان تطبيق هذه المواد مع ترك الحرية للدول المختلفة في وضع إطار العمل الخاص بها لوضع هذه التوصيات موضع التنفيذ.
وبذلك يكون هذا الإعلان العالمي قد وضع قواعد عامة تتضمن التأكد من سلامة البحث أو المنتج وعدم أضراره بالإنسان. كذلك محاولة التأكد من أن البحث سوف يكون لمصلحة الجنس البشري، مع الأخذ في الاعتبار الالتزام بالمعايير العلمية السليمة في إجراء البحث أو تطبيقه، وأخيرا ضرورة اخذ موافقة الشخص الخاضع لإجراء البحث أو العلاج أو خلافه بعد كافة التفاصيل المتعلقة بالفوائد المرجوة أو الأضرار المحتملة.
وهنا نرى أن إعلان منظمة اليونسكو قد راعي الحفاظ على حرية البحث، مع الاحتفاظ بحق المجتمع في الرقابة على الأمر العلمية المختلفة، حفاظا على الكرامة الإنسانية وبما لا يتعارض مع الإعلام العالمي بحقوق الإنسان ولكن دون الحظر على إبداع العلماء. وتأتى هذه الرؤية المتوازنة والمتعلقة من واضعي هذا الإعلان لإدراكهم مدى الفائدة التي يمكن أن تعم على الجنس البشري من وراء هذه الأبحاث وذلك في مستقبل ليس ببعيد على أية حال.
العلم يتقدم والقوانين تتأرجح:
ربيع1997 وبعد شهور قليلة من صدمة ( الاستنساخ ) Clonning التي أعلنها " ويلموت " وفريقه العلمي، اجتمعت المجموعة المنوطة بأخلاقيات التكنولوجيا الحيوية لدول الاتحاد الأوربي بإبداء رأيها في الخطة الخمسية للبحوث العلمية التي بموالها الاتحاد، وقد اقترحت أن يشجب الاتحاد الأوربي أي محاولة تهدف إلي استنساخ الأجنة البشرية سواء حية أو ميتة. وفي خريف نفس العام انعقد في " ستراسبورج " مؤتمر قمة الاتحاد الأوربي واصدر قرارا بمنع أي وسيلة تهدف إلي استنساخ كائنات بشرية متشابهة جينيا. كما اصدر مؤتمر القمة أوامره إلي المجلس الوزاري لدول الاتحاد بسرعة إصدار قانون بهذا الشأن يضاف كمادة جديدة إلي ميثاق الاتحاد الأوربي ضمن فقراته المتعلقة بالبحوث والممارسات الطبية وأثرها على حقوق الإنسان والكرامة الإنسانية. وما هو أفكاره شهر واحد فقط وبالتحديد في 6 نوفمبر1997، اصدر الاتحاد الأوروبي هذه الفقرة الجديدة والمكونة من ثلاث مواد تعني جميعها بحذر الاستنساخ البشري أو الأبحاث التي قد تؤدى إلي ذلك.
ولكن وبعد عام بالتمام والكمال في نوفمبر 1998 أصدرت المجموعة الأوروبية لأخلاقيات العلم والتكنولوجيا الحديثة عدة توصيات أهم انه لا يجب حجب التمويل بصورة كلية عن الأبحاث المتعلقة بالأجنة البشرية من خلال الخطة الخمسية للأبحاث الممولة من قبل الاتحاد الأوروبي، وأوصت أن يتم السماح بالتمويل ولكن طبقا لمواصفات كثيرة أهم التقييم الأخلاقي لمشروع البحث من قبل لجان الاتحاد وان تخضع هذه الأبحاث لرقابة شعبية مكثفة تكفل الشفافية القصوى سواء أكان البحث يتم في قطاع حكومي أو خاص.
أما في أمريكا فلم يختلف الأمر كثيراً، فقد اصدر الكونجرس الأمريكي في عام 1998 قراراً بحظر استخدام الأموال الفيدرالية في تمويل الأبحاث المستخدمة للأجنة البشرية كما، اصدر حظرا لمدة 5 سنوات على أي تجربة استنساخ أجنة بشرية. ولكن وفي الثالث عشر من سبتمبر عام 1999 تم إرسال تقرير من ( المجلس الاستشاري الأمريكي للأخلاقيات البيولوجية )، وهو مجلس استشاري شبه حكومي، إلي الرئيس " بيل كلينتون " يدعوه إلي النظر في مخاطبة الكونجرس بشان الرفع الجزئي لهذا الحظر المفروض على الأبحاث في مجال الأجنة البشرية. وقد استند التقرير في دعواه على انه لا يجوز تجاهل الفوائد الطبيعية الكثيرة والمنتظرة من استخدام الخلايا الجنينية الجذعية ( Human Empryonic Stem Cells ) وطرق العلاج الجيني للجنين داخل الرحم ( In- Utero Gene Therapy ) في علاج الكثير من الأمراض. وكما فعلت أوروبا، فعل دكتور " هارولد شابيرو " رئيس اللجنة السالف ذكرها وباعث التقرير للرئيس الأمريكي، فقد أكد أولئك على المبدأ العام لاحترام الأجنة البشرية وعدم المتاجرة بها، ثم اقترح تكوين لجنه دائمة – تشمل بعض الشخصيات العامة من غير العلماء – لمراجعة مصدر الخلايا الجنينية المستخدمة في بروتوكولات البحث أو العلاج الممولة فيدراليا، والتأكد من أنها مستمدة من مصادر غير مخالفة أخلاقيا أو قانونيا. ومازالت هذه الاقتراحات تثير الكثير من التساؤل في الأهمية العلمية والشعبية بالولايات المتحدة، ومن المرجح أن رفعا جزئيا لهذا الحظر المفروض من قبل الكونجرس قد يحدث قريبا.
فالعلماء يضغطون بشدة في اتجاه رفع هذا الحظر وفي جعبتهم الكثير من الأوراق الرابحة أهم دروس التاريخ، ففي أوائل السبعينات حدثت مناقشات ومداولات كثيرة بغرض منع استخدام تكنولوجيا الحامض النووي المهجن"Recombinant DNA Technology " والتي كانت مستحدثة في هذا الوقت. ويشير العلماء إلي أن التاريخ قد اثبت خطا السياسيين وأعضاء الكونجرس الذين أرادوا حظر هذه التكنولوجيا. فها هي الأفكار قد حققت العديد من الإنجازات وفي سبيلها لتغيير وجه العالم. ويرى العلماء أن الاتجاه إلي حظر التجارب الجديدة هو نوع من التمسك بمبادئ أثبتت الأيام فشلها وسطحيتها، كما يشيرون إلي انه لم يسبق للكونجرس الأمريكي في تاريخه كله أن شرع قانونا واحدا يضع حظر على أي بحث في أي مجال للعلوم أو الطب. وعلى ذلك يكون رفع الحظر الجزئي عن التجارب التي تهدف إلي الاستفادة من تقنيات الاستنساخ في مجال العلاج – هو في نظر هؤلاء العلماء – طريقا يفتحونه للكونجرس لتصحيح خطئه التاريخي بالحظر على هذا النوع من التجارب.
وهكذا نجد أن قدرة العلماء على التجديد في مجال التكنولوجيا الحيوية تفوق دائما قدرة المجتمع على استيعاب هذه الإنجازات، كما تفوق قدرة المشرعين على وضع القوانين. وكذلك تمثل هذه الأمام المذكورة في هذه الفقرة كيف يمكن للتقدم العلمي السريع والمطرد أن يجعل القوانين المنظمة تتآكل في زمن وجيز وتتغير في وقت اكثر أي.
هل نقتل الأفعى الكونية في بيضتها؟!
من الأشياء المثيرة للاهتمام أن بعض الكهنة الهنود في أمريكا اللاتينية يتعاطون بعض الأعشاب المحلية التي تجعلهم يدخلون في حالة من اللاوعي والانفصال عن العالم المحيط بهم. وهم يدعون انه عندما تنتابهم هذه الحالة يصبحون قادرين على استكشاف المستقبل والتعرف على أسرار الحياة. وعندما أعطاهم أحد العلماء ورقة وقلما ليرسموا ما يشاهدونه أثناء نوبة الهذيان هذه كانت رسوماتهم عبارة عن أشكال لأشياء مختلفة تشبه في مجملها الشكل الحلزوني المزدوج للدنا. على أن الرسم الأكبر وضوحا كان عبارة عن شكل أفعي تحمل معها ظلالها وتتلوى بحيث تبدو قريبة الشبه جدا بجزيء الدنا. ونحن الأفكار لسنا بصدد تصديق ادعاءات هؤلاء الكهنة بشان معرفتهم بسر الحياة ولكننا بصدد التدقيق فيما رسموه. فجزيء الدنا يمكن تصويره فعلا- كما وصفه أحد العلماء- على انه " أفعي كونية " "Cosmic serpent " إذ انه يمثل الشفرة الوراثية لكل الكائنات الحية، كما أن التطبيقات الناتجة عن تزايد المعرفة به تبدو وكأنها قادرة على تغيير وجه الحياة. أفكاره أن الجانب المظلم لهذا الجزيء تمثله الطبيعة الافعوانية لهذه الحية. فرغم أن العلماء يعتقدون أنهم قد روضوها لمنفعتهم ولمنفعة البشرية أفكاره أن الكثير من أسرارها مازال خفيا والوقت الذي يمكن أن تلدغ فيه هذه الأفعى ابعد ما يكون عن إدراك البشر. فكما أن كل أفعي لابد وان تلدغ، فان بعض التطبيقات المنحرفة للهندسة الوراثية قد تكون هي لدغة هذه الأفعى. والسؤال الذي حاولنا عرضه للمناقشة في الصفحات السابقة هو كيف نتقي شر هذه اللدغة دون أن نحاول أن نقتل الأفعى في بيضتها فنمنع عن البشرية خيرا كثيرا بغرض درء الخطر. وقديما صور " شكسبير " صراعا داخليا كهذا متمثلا في " بروتس " وحيرته في أن يقتل أو لا يقتل " يوليوس قيصر "، وكانت الدوافع لقتله انه مثل الحية إذا خرجت من بيضتها فالكتلة سوف تنساق تبعا لطبيعتها وتحدث أخطارا كثيرة. ونحن نعرف من التاريخ ماذا حدث لبروتس وغيره ممن خططوا لقتل " يوليوس قيصر "، ونعرف انه لم يبق للتاريخ أفكاره " يوليوس قيصر " ومن دافعوا عنه مع ملاحظة أن أداءه كان يجب أن يخضع للتقويم وليس للقتل. والآن لسنا بصدد من نناصر من شخصيات التاريخ. ولكننا بصدد ما هو الدور الذي نختاره ليحملنا إلي المستقبل.
*************
سليمان محمد- عضو نشيط
- عدد المساهمات : 103
تاريخ التسجيل : 09/11/2009
العمر : 49
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى